السبت، 14 نوفمبر 2015

طريقان لمعرفة الله

طريقان لمعرفة الله

لقد كتبت كتب كثيرة منذ أقدم الازمنة حتى اليوم، وجرت بحوث و مساجلات عديدة بين العلماء و المفكرين حول معرفة الله. 

كلّ فريق من هؤلاء اختار للوصول الى هذه الحقيقة طريقاً خاصاً، غير أنَّ أفضل الطرق و أسرعها في ايصالنا الى مبدأ عالم الوجود طريقان اثنان
أ - طريق من الدّاخل "أقرب الطرق"

ب - طريق من الخارج "أوضح الطرق"

نبدأ أوّلاً بالغور في أعماقنا لنسمع نداء التوحيد من داخلنا، و في المرحلة التالية نسيح في عالم الخليقة الشّاسع لنطالع آيات اللّه في سيماء كلّ الموجودات و في قلب كل الذّرات. إنَّ في كلّ من هذين الطريقين بحوثاً مسهبة، إلاّ أنَّنا سوف نسعى في مقالة موجزة بحث كلاًّ من هذين الطريقين بحثاً مجملاً.

طريق من الدّاخل
دعونا نفكّر في المواضيع التّالية

1- يقول العلماء: إنَّ أي شخص، مهما كان عنصره وطبقته، إذا ترك و شأنه دون تعليم أو ارشاد، ودون أنْ يسمع آراء المؤمنين والملحدين، فإنّه يتّجه بذاته نحو قوة قادرة قاهرة ترتفع فوق المادة وتحكم الكون بأسره.

إنَّ هذا الانسان يحس أن في أعماق قلبه وزوايا نفسه نداءً لطيفاً مفعماً بالمحبّة والرّحمة، وفي الوقت نفسه مكين وثابت، يدعوه الى المبدأ العظيم والقادر العليم الذي ندعوه: الله.

ذلك هو نداء الفطرة الطاهرة!

وقد ينجرف هذا الشخص مع التيار المادي وحركة الحياة اليومية الزّاخرة بالبهرجة والزّينة، فينشغل بها موقتاً عن سماع ذلك النداء. ولكنه عندما يواجه الشّدائد والمشكلات والمحن، وعندما تهاجمه الحوادث الطبيعية المرعبة، كالسيول والزّلازل والفيضانات ولحظات القلق في طائرة تتلاعب بها العواصف. نعم، عندما تقصر يده عن الوصول الى عون مادي، ولا يجد ملجأ يلوذ به، يقوى هذا النداء في داخله، ويحس أن في كيانه قوّة تجتذبه نحوها، قوّة هي فوق كلّ القوى، وقدرة غامضة يسهل عليها حلّ جميع المشكلات بيسر.

قليل جداً من النّاس من لا يتّجه الى خالقه عند مواجهة الأزمات والشّدائد، ولايتذكر الله دون اختيار. هذا الامر هو الذي يدلّنا على مدى قربنا منه، ومدى قربه منّا، بل إنَّه في أرواحنا وضمائرنا.

إنَّ نداء الفطرة موجود دائماً في وجدان الانسان، ولكنه يقوى في هذه اللحظات.

2- يكشف لنا التّاريخ أنَّ رجالاً من ذوي السّلطة والمقدرة كانوا في الاوقات العادية يأنفون حتى من ذكر اسم الله، ولكنّهم إذا ما شعروا بأنَّ قواعد سلطتهم أخذت تهوي، وأنَّ قصور وجودهم بدأت تنهار، راحوا يمدون يد التوسل الى هذا المبدأ العظيم، لإنّ نداء الفطرة عاد يرن في اسماعهم بجلاء من جديد.

يقول التاريخ: عندما أوشك فرعون على الغرق في الأمواج المتلاطمة، ورأى أنَّ هذا الماء الذى كان سبب إحياء بلاده وأساس قوته المادية، قد أصدر عليه حكماً بالاعدام، وأنّه عاجز حتى عن دفع أمواج هذا الماء، وأنَّ يده قاصرة عن نفعه في شيء، أخذ يصرخ عالياً: لا إله ولا معبود سوى إله موسى العظيم. لقد صدرت هذه الصرخة في الحقيقة، من فطرته الباطنية، ولا يقتصر هذا على فرعون، فكلّ من يمر بظروف مماثلة يسمع هذا النداء نفسه؟

3- إذا رجعت الى أعماق نفسك وجدت أنَّ هناك نوراً يتلألأ في باطنك ويدعوك الى الله. ولعلك قد صادفت في حياتك بعض الازمات الشّديدة والطّرق المسدودة بحيث أنك يئست من العثور على الحل والعلاج. لاشك أنَّك في مثل تلك الحالات قد خطرت لك حقيقة وجود قوة قادرة في عالم الوجود تستطيع أنْ تحل مشكلتك بكل سهولة.

في تلك اللحظات تشعر انك قد احتواك أمل يمازجه في داخلك حبّ ذلك المبدأ العظيم، وأنَّ ذلك الأمل قد أزاح عن قلبك كلّ سحب اليأس القاتمة. 

نعم، هذا هو أقصر الطرق التي تبدأ من داخل المرء للوصول الى الله، بارىء عالم الوجود.

يقول الله في كتابه الكريم: ﴿فَإذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ اِلى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.(العنكبوت:65)

*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية، آية الله مكارم الشيرازي. مؤسسة البعثة، ط2 ، ص22-25

الفطرة والعادة

الفطرة والعادة

إننا نسمع نداء التوحيد وعبادة الله دائماً من أعماقنا، وإنَّ هذا النداء يقوى ويشتد عند مواجهة المشكلات والصعاب، فنتذكر الله دون اختيار ونستعين بلطفه اللامحدود ومحبّته الشاملة اللانهائيين.

هنا قد يسأل سائل: إنَّ هذا الاحساس الدّاخلي الذي نصفه بأنه فطري، ألا يحتمل أنْ يكون من إفرازات المحيط الاجتماعي وتلقينات الأبوين والمعلمين في البيت والمدرسة حتى أضحى عادة مألوفة؟

الجواب
جواب هذا السّؤال يتبين بوضوح بالانتباه الى مقدمة قصيرة. إنَّ العادات والرّسوم اُمور طارئة متغيرة وغير ثابتة. أي إنَّنا لا يمكن أنْ نعثر على عادة من العادات ظلت سارية بين البشر على امتداد التاريخ. إنَّ العادة السائدة اليوم قد تتغير غداً، كما أن عادات قوم ورسومهم قد لا تكون كذلك بين أقوام آخرين.

وبناء على ذلك، إذا رأينا أمراً موجوداً عند كل الاقوام والملل وفي كل عصر وزمان، بدون استثناء، أدركنا أنّه لابدّ أنْ تكون له جذور فطرية وأنَّه داخل ضمن تكوين الانسان ونسيجه.

من ذلك تعلق الاُمّ بوليدها، فلا يمكن أنْ يكون هذا الدّافع نتيجة الإيحاء والتلقين ولا عادة من العادات، لأنّنا لا يمكن أنْ نعثر بين قوم من الاقوام أو شعب من الشعوب في أي عصر وزمان على اُمّ تجفو وليدها وترفضه.

بديهي أنّ هناك استثناءات شاذة نجد فيها اُمّاً تقضي على وليدها بسبب بعض الامراض النّفسانية، أو نرى أباً من العصر الجاهلي يئد ابنته متأثراً بمعتقدات خرافية خاطئة. ولكن هذه حالات نادرة سريعة الزّوال، انقرضت من بين الناس وعادت الحالة الى وضعها الطبيعي من حبّ الأبوين لاطفالهما.

بعد هذه المقدّمة نلقي نظرة على قضية عبادة الله بين اُناس هذا العصر واُناس الماضي: 

بالنظر لكون هدا المقال على شيء من التعقيد فيرجى ملاحظة ذلك.

1- يؤكد علماء علم الاجتماع والمؤرخون المشهورون أنَّ البشرية لم يمرّ بها زمان ليس لها ضرب من الدين أو الايمان بشيء، فقد كان الدّين موجوداً في كل عصر وزمان. وهذا دليل بيّن على أنَّ عبادة الله تنبع من فطرة الانسان وضميره، ولا دخل للتلقين والرسوم والعادات فيها، إذ لو كان لها أي أثر في إيجاد الدين لما كان عامّاً ولا خالداً.

هنالك قرائن تدل على أنَّ انسان ماقبل التاريخ كان يدين بنوع من الدّين (عصور ما قبل التاريخ تطلق على الازمنة التي مرّت على الانسان قبل اختراع الكتابة، يوم لم يستطع أنْ يترك وراءه كتابات تدلّ عليه).

بديهي أنَّ الانسان القديم البدائي لم يكن قادراً على تصور الله وجوداً فوق الطبيعة، لذلك كان يبحث عنه بين الكائنات الطبيعية، وراح يصطنع لنفسه آلهة أصناماً من بين الكائنات الطبيعية، ولكن الانسان بتقدمه الفكري استطاع بالتدريج أنْ يعثر على الحق، وأنْ يشيح بوجهه عن الاصنام وهي أشياء مادية، ليتوجه الى ما وراء هذا العالم المادي ويتعرف على قدرة الله العظيمة.

2- يصرح بعض علماء النفس بأنَّ لروح الانسان أبعاداً أربعة أو دوافع أربعة
أ- دافع المعرفة: وهو الذي يحث الانسان على طلب العلم ويثير في النفس التعطش الى التعلم، سواء كان ذلك ذا نفع مادي له، أم لم يكن.

ب- دافع الصّلاح: وهو مصدر الاخلاق الانسانية الصالحة في البشر.

ج- دافع الجمال: وهو منشأ ظهور الشعر والادب والفن بمعانيها الحقيقية.

د- الدافع الدّيني: وهو الذى يدعو الانسان الى معرفة الله وإطاعة أوامره.

وعلى هذا فإنَّ الحس الديني ذو جذور أصلية في الانسان، أي أنه لم يفارقه لحظة ولن يفارقه أبداً.

3- ان معظم الماديين والملحدين يعترفون بشكل ما بوجود الله، على الرغم من أنّهم يمتنعون عن ذكر اسمه الصريح، وإنّما يطلقون عليه اسم الطبيعة أو أسماء اُخرى، ولكنّهم يعزون الى الطبيعة صفات أشبه بصفات الله تعالى.

يقولون مثلاً: إذا كانت الطبيعة قد وهبت الانسان كليتين فذلك لأنّها تعلم احتمال اصابة التلف احداهما، فتقوم الاُخرى باداء وظيفتها الحياتية، وما الى ذلك من الاقوال. فهل ينسجم هذا القول مع طبيعة عمياء، أم ينسجم مع إله يتصف بعلم لا نهاية له، وانْ اطلقوا عليه اسم الطبيعة؟

نستنتج ممّا مرّ بنا في البحث الاُمور التّالية
1- حبّ الله كان فينا دائماً وسيكون فينا دائماً أيضاً.
2- الايمان بالله شعلة خالدة تدفىء قلب الانسان وروحه.

لكي نعرف الله لسنا مضطرين للسير مسافات طويلة، بل علينا أنْ ننظر في اعماقنا لنجد الايمان به هناك.

يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد﴾(ق:16) 

*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية، آية الله مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، ط2، ص27-31



عالمية الإسلام وخلوده

عالمية الإسلام وخلوده



المقدمة
إن الإيمان بكل الأنبياء، والتصديق بكل رسالاتهم من المعتقدات الضرورية في الإسلام، وأن إنكار أحد الأنبياء أو أحد أحكامه وتعاليمه يعني إنكار الربوبية التشريعية الإلهية، وبمثابة كفر إبليس. 

ومن هنا، فبعد إثبات رسالة الإسلام، يلزم الإيمان به، والإيمان بكل الآيات النازلة عليه، وبجميع الأحكام والتعاليم التي جاء بها من الله تعالى. 

ولكن الإيمان بكل نبي، وبكتابه السماوي، لا يستلزم لزوم العمل وفق شريعته.

فالملاحظ أن المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء العظام عليهم السلام وجميع الكتب السماوية، ولكن لا يمكنهم ولا يجوز لهم العمل بالشرائع السابقة. ومن الواضح أن الوظيفة العملية لكل أمة هي: العمل بتعاليم النبي المرسل لتلك الامة، إذن، فلزوم عمل الناس جميعاً بالشريعة الإسلامية انما يثبت فيما لو لم تختص رسالة نبي الإسلام بقوم (كالعرب)، وكذلك فيما لو لم يبعث نبي آخر بعده ينسخ شريعته، وبعبارة أخرى: إن الإسلام دين عالمي وخالد.

ومن هنا، يلزم علينا البحث في هذه المسألة: هل إن رسالة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله عالمية وخالدة؟ أم أنها تختص بقوم أو زمان معين؟ ومن الواضح أنه لا يمكن دراسة هذه المسألة بالمنهج العقلي البحت، بل لا بد من الإعتماد على منهج البحث في دراسة العلوم النقلية والتاريخية، اي لا بد من مراجعة المستندات والمصادر المعتبرة، ومن ثبت عنده أن القرآن الكريم على حق، وثبت عنه نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وعصمته، فليس هناك أي مصدر آخر أكثر إعتباراً لديه من الكتاب والسنة.

عالمية الإسلام‏
إن عالمية الدين الإسلامي، وعدم إختصاصه وتحديده بقوم أو منطقة معينة، من ضروريات هذا الدين الإلهي، وحتى غير معتنقيه يعلمون بأن الدعوة الإسلامية عامة شاملة، وغير محددة بمنطقة جغرافية معينة. إضافة إلى ذلك، هناك الكثير من الشواهد والدلائل التاريخية التي تدل على أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قد بعث الرسائل لرؤساء وملوك الدول القائمة آنذاك، أمثال قيصر الروم، وشاه إيران، وحكام مصر والشام والحبشة، ورؤساء القبائل العربية المختلفة. وأرسل لكل واحد منهم رسولا خاصا، ودعاهم جميعا لاعتناق هذا الدين المقدس، وحذرهم من مغبة الكفر والمساوئ المترتبة على إمتناعهم عن إعتناق الإسلام1، ولو لم يكن الدين الإسلامي، عالميا لما تحقق مثل هذه الدعوة الشاملة، ولكان هناك عذر ومسوغ لسائر الأقوام والأمم عن عدم إعتناقه. إذن فلا يمكن التفكيك بين الإيمان بأن الإسلام على حق، وضرورة العمل وفق هذه الشريعة الإلهية، ولا يستثني أي أحد عن الإلتزام العملي بهذا الدين الإلهي.

الأدلة القرآنية على عالمية الإسلام‏
إن القرآن الكريم هو أفضل الأدلة وأكثر المصادر إعتبارا على هذه الحقيقة، وهو المصدر المعتبر والحجة المعتبرة لكل الناس. ومن ألقى نظرة ولو كانت عابرة على هذا الكتاب الإلهي يدرك بكل وضوح عمومية دعوته، وعدم اختصاصها بقوم، أو عنصر، أو لسان. 

ومنها: أنه يخاطب الناس جميعا في آيات كثيرة: (يا أيها الناس)1 أو (يا بني آدم)2 ويرى هدايته شاملة لجميع البشر (الناس)3 و(العالمين)4، وقد جعل رسالة النبي الأكرم موجهة لجميع الناس (الناس)5 و(العالمين)6. وقد أكد في احدى آياته شمول دعوته لكل من إطلع عليها7 ومن جانب آخر يخاطب معاتبا. أتباع الأديان الأخرى بـ(هل الكتاب)8، ويثبت رسالة النبي صلى الله عليه وآله في حقهم، ويرى الهدف من نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وآله هو إعلاء الإسلام وإظهاره على سائر الأديان9.

ومع التأمل في هذه الآيات، لا يبقى أي شك في عمومية الدعوة القرآنية وعالمية الدين الاسلامي المقدس.

خلود الإسلام‏
كما أن الآيات المذكورة تثبت عمومية الإسلام وعالميته، من خلال استعمال الألفاظ العامة أمثال (بني آدم، والناس، والعالمين)، وتوجيه الخطاب للامم الأخرى من غير العرب، وأتباع الأديان الأخرى أمثال (يا أهل الكتاب)، فهي كذلك ومن خلال الإطلاق الزماني تنفي أي تحديد وتقييد له بزمان معين، وخاصة هذا التعبير (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه)10، حيث لا يبقى معه شك في هذا المجال.

ويمكن الإستدلال على هذه الحقيقة أيضا بالآيتين (41) و(42) من سورة فصلت: (إِنّ‏َ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَاب عَزِيز، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيل مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). 

حيث تدل على أن القرآن الكريم لن يفقد صحته واعتباره أبدا. كما أن الأدلة التي تثبت ختم النبوة بنبي الإسلام تبطل كل ما يتوهم عن نسخ هذا الدين الإلهي، بواسطة نبي آخر أو شريعة أخرى.

وقد وردت روايات كثيرة تتضمن هذه الفكرة: "حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة"11.

اضافة إلى أن خلود الاسلام كعالميته من ضروريات هذا الدين الإلهي، ولا يحتاج إلى دليل آخر غير الادلة التي تثبت أن الإسلام على حق.

معالجة بعض الشبهات‏
إن أعداء الاسلام الذين بذلوا كل جهودهم في الوقوف بوجه هذا الدين الإلهي، والمنع من إنتشاره وإتساعه، حاولوا من خلال طرح بعض الشبهات أن يثبتوا أن الدين الإسلامي إنما نزل للجزيرة العربية فحسب، وليست رسالته شاملة لسائر الناس!

وقد تمسكوا ببعض الآيات التي تدل أن النبي صلى الله عليه وآله إنما كان مأمورا بهداية عشيرته وأقربائه، أو أهل مكة وما يحاذيها ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(الشعراء:214)12. وكذلك الآية (69) من سورة المائدة فإنها بعد أن أشارت لليهود والصابئين والنصارى إعتبرت محور السعادة في الإيمان والعمل الصالح، ولم تتطرق إلى تأثير إعتناق الدين الإسلامي في السعادة.

وإضافة لذلك، فإن الفقه الاسلامي لم يعتبر أهل الكتاب بمستوى المشتركين، بل يرى أنهم لو دفعوا الجزية (وهي بدل الخمس والزكاة المفروضين على المسلمين) فلهم الأمان في ظل الدولة الإسلامية، ويمكنهم العمل بأحكام شريعتهم، وهذا دليل على إعتبار سائر الأديان.

ونقول في الجواب: ان الآيات تذكر عشيرة النبي صلى الله عليه وآله أو أهل مكة، إنما هي في مجال بيان مراحل الدعوة، حيث تبدأ من عشيرته الأقربين، وبعد ذلك تمتد لسائر أهل مكة وما يحاذيها، ثم تأخذ بالإتساع لسائر البشر في العالم، ولا يمكن لهذه الآيات أن تكون مخصصة للآيات الدالة على عالمية رسالة النبي صلى الله عليه وآله، وذلك لإنه بالاضافة إلى أن شكل التعبير في هذه الآيات ولحنها يأبى عن التخصيص فإن مثل هذا التخصيص يلزم منه تخصيص الأكثر وهو مستهجن عند العقلاء.

وأما الآية المذكور في سورة المائدة، فهي في مجال بيان هذه الحقيقة، بأن مجرد الإنتساب لهذا الدين أو ذاك لا يكفي لغرض الوصول للسعادة الحقيقية، بل إن عامل السعادة هو الإيمان الواقعي والعمل بالوظائف التي شرعها الله تعالى لعباده. ووفق الأدلة التي تثبت عالمية الإسلام وخلوده فإن وظيفة الناس جميعا بعد ظهور نبي الإسلام هي العمل بأحكام هذا الدين وتشريعاته. 

وأما الميزة التي تميز أهل الكتاب عن سائر الكفار في الدين الإسلامي فلا تعني إعفاءهم عن إعتناق الإسلام والعمل بأحكامه، بل إنه في واقعه ارفاق دنيوي في حقهم لبعض المصالح، وفي رأي الشيعة إن هذا الإرفاق مؤقت، سيعلن عن الحكم النهائي في حقهم، في زمان ظهور ولي العصر عجل الله فرجه وسيكون الموقف منهم كالموقف من سائر الكفار، ويمكن إستفادة هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه﴾.


*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص165-170

1- البقرة:21، والنساء:1-174، وفاطر:15.
2- الاعراف:26-27-28-31-35، ويس:60.
3- البقرة:185-187، وآل عمران:138، وابراهيم:1-52، والجاثية:20، والزمر:41، والنحل:44، والكهف:54، والحشر:21.
4- الانعام:90، ويوسف:104، وص:87، والتكوير:27، والقلم:52.
5- النساء:79، والحج:49، وسبأ:28.
6- الأنبياء:107، والفرقان:1.
7- الأنبياء:107، والفرقان:1.
8- آل عمران:65، و70 و71 و98 و99 و110، والمائدة:19.
9- التوبة:33، والفتح:28، والصف:9.
10- البقرة: 21، والنساء: 1، 174، وفاطر: 15.
11- الكافي، ج‏1، ص 58، وج‏2، ص‏17، والبحار، ج‏2، ص 260، وج 24، ص 288، ووسائل الشيعة، ج 18، ص 124. 
12- وأيضاً: الانعام:92، والشورى:7، والسجدة:3، والقصص:46، ويس:5-6.